>>ادري محد بيفهم >>قصة الطيف ؟؟

>>
كانت عائدة من السوق تعلق بذراعها اللدنة سلة الخضار. ولفت انتباهها الدكان الصغير عند بداية الزقاق ، كان مغلقا وبابه الخشبي ، كان كوجه أعمى وكم سرح بها الخيال وظنت أن وراءه عالما مجهولا يسكنه أناس يعيشون في زمن غابر .أما الآن فقد فتح الباب وتبددت خيالاتها السابقة ورأت دكانا صغيرا لا تتجاوز مساحته المترين مربعا وقد طليت جدرانه بالجبس الأبيض وعلقت عليها يمينا ويسارا آيات قصار من القرآن الكريم وفي واجهته لوحة كبيرة لآية الكرسي تحتها قطعة قماش خضراء نشرت فوقها مسبحة طولها ما يقارب نصف المتر حباتها ضخمة من الخشب ، كما فرشت أرضيته بالسجاد القديم والبسط المشغولة بخيوط الصوف عليها رسوم حيوانات أسطورية . ووقفت تتأمله ووقع بصرها على الشيخ الذي يشغل الدكان فشعرت بجلال وقاره وسطوة هيبته كان يجلس في زاوية منه كما لو يمارس طقسا دينيا وهو بملابسه البيض وعباءته بالخيوط الفضية التي يضعها فوق كتفه ولحيته الشديدة البياض كان الرجل مطرقا يقرأ بكتاب عتيق وقد بسط أمامه منديلا كبيرا يتكوم عند وسطه عدد من الحصى الجميلة وخرزات ملونة وأسنان حيوان وخرزة ( أم سبع عيون ) وقطعة معدن من النحاس بحجم الدرهم . ابهرها ما ترى فتحركت خطوات حتى عتبة الدكان ووقفت محنطة لا تبدي حراكا. رفع الشيخ بصره إليها فاصطدم بامرأة ضئيلة الجسم سمراء ذات عينين مشمستين واسعتين يشع منهما بريق لامع ، نظراتها توحي بالبراءة والطفولة. انتظر الشيخ أن تتكلم ولكنها ظلت جامدة في مكانها، لا تعرف ماذا تفعل.خاطبها وهو يبتسم :

ـ اقتربي ..

انتبهت إليه ورمته بنظرات حائرة وجلة :

ـ تعالي لا تخافي.

تقدمت خطوات وهي تنوء بسلة الخضار بيد وتضم أصابع يدها الأخرى على شيء ما.

ـ اجلسي هنا.

وجلست على الأرض أمامه.

ـ والآن .. هدئي من روعك..

شعرت بالراحة لكلمات الرجل تصافح إذنيها وتدغدغ قلبها وتبعث داخلها الطمأنينة والأمان.

ـ لاشيء يدعو للقلق .

فانفرجت أساريرها وتركت السلة من ذرعها تنحدر الى جانبها وأرخت يدها التي تضمها دون أن تفتحها .

قال الشيخ : ـ تحبين أن أرى طالعك.؟

فهزت رأسها بالإيجاب وهي تنعم النظر بوجهه .

ـ إذن القي ببياضك .

لم تفهم قصده وأخذت تفكر للحظات ثم اهتدت الى أمر..فتحت أصابعها فسقطت قطعة النقود التي ادخرتها من مصروف اليوم فوق المنديل ، التقطها الشيخ وطلب إليها أن تضع يدها فوق كومة الحصى وتسأل في سرها عما تود معرفته فمدت يدا مرتعشة وسألت.."هل سيعود.. ومتى.؟"

حمل الشيخ كومة الحصى من أمامه وقربها الى فمه يهمس فيها وارتجف كما لو أصابته قشعريرة ثم أعادها الى مكانها وصمت لحظات وقال كما لو يبوح لها بسر يريد لها أن تحتفظ به لنفسها فحسب:

ـ سيزورك طيفه ..

انتبهت مشاعرها فسرت للنبأ ورفعت رأسها الى السقف كما لو ترجو الله أن يعجل لها برؤيته ثم عادت تترقب ثانية ما سيقوله:

ـ اجل وسيخبرك أين هو الآن.. وسيبلغك بأخبار سارة إن شاء الله..

ابتسمت بأريحية بوجه الشيخ ولم تر ردة فعله إذ كان قد عاد الى كتابه القديم ومضى يقرأ بصمت.نهضت وسارت عائدة الى البيت وهي تفكر بكل كلمة قالها. وظلت مشغولة البال طوال النهار تنتظر صديقها الأثير الهر البني الذي تعرفت عليه صيف العام الماضي حين وقع بصرها عليه ذات يوم، ثم بمرور الوقت عرفت انه يعود للست وهبية المدرسة العانس التي يقع بيتها خلف منزلهم مباشرة ومنذ ذاك اليوم وهي تختلي به، تناجيه وتتحدث إليه بكل شيء وتبوح له بإسرارها كلما التقيا. كانت تتحرق لأن تراه لتحدثه بما سمعته من الشيخ .. وظلت أمها الضريرة تكلمها طوال الوقت وهي لا ترد وفكرت إنها إذا لم يظهر الهر خلال ساعات النهار فقد يبدأ صبرها بالنفاد عندها ستبوح بسرها لواحدة من نساء المنزل الكبير الذي تشغل مع أمها غرفة فيه.. ، بعد الظهيرة كادت تيأس لولا أن رأت الهر وهو يدخل غرفتها ويلوذ بحضنها فراحت تهمس بأذنه:

ـ سيزورني طيفه ..

هز الهر رأسه بقوة فتردد في الجو صوت خشخشت خرزات قلادته الملونة وسمعت أمها بعض ما همست به فسألت: ـ من سيزورك.!

ظلت صامتة ..ولاحظت الأم ارقها لساعات طويلة تلك الليلة على ضوء الفانوس الخافت وهي تتقلب في سريرها نادتها فلم ترد وأعادت النداء فتكهنت إنها مشغولة البال ،سألتها بصوت مرتفع :

ـ ما بك ياابنتي .؟

قالت بنبرة يخالجها الشعور بالذنب: ـ سيزورني ذات ليلة..

ـ من .. صابر ..!!

ـ أجل سيجيء..

ـ ياابنتي الأموات لا يرجعون ..

لم تنتبه لما قالته أمها وأكملت ـ وسيقص علي سبب كل هذا الغياب ..أجل.. سيزورني طيفه.

ـ أنت مازلت طفلة ..فالأطياف لا تتكلم .

قالت ببهجة : ـ هكذا أخبرني الشيخ..

ومرت الأيام والليالي وما قاله لها الشيخ لا يفارق سمعها ولا مخيلتها وهي تحلم بعودته ، كانت كل ليلة ترتب الغرفة وتلطف جوها بالبخور ، وتلبس أجمل ثيابها وتسرح شعرها وتلبس الذهب الذي اشتراه لها:حلقة الزواج والمحبس ذا الشذرة الزرقاء والـ "ماشاء الله" بالسلسلة والاسوارين وتتعطر وتتمدد في فراشها عند باب الغرفة وتنتظر حتى يراودها النعاس وشيئا فشيئا تنام لتستيقظ في الصباح التالي وهي تشعر بالإعياء حتى إذا ما دجا الليل ثانية عادت الى الانتظار وهي تتقلب وتتأوه شوقا لملاقاة طيفه .. حتى جاءت الليلة الموعودة ، كان القمر يرسل أشعته باهتة من خلف ستارة الغرفة وكان الوسن يداعب ناظريها اللتين تترقبان بالظلمة ويلوي عنان جفنيها وهي تقاومه وكادت تغفو ثم تنام حين سمعت صوت صرير باب الغرفة وهو يفتح ،وظلال طيف يرتمي على الجدار تبعه وقع أقدام على البساط الممدود على الأرض تظاهرت بالنوم فأحست به يقترب من سريرها ويجلس الى جانبها ضمها إليه بلهفة واندس الى جانبها في الفراش وراحت أصابعه تتسلل ، تجوب منحنيات جسدها الناعم ومضت هي تداعب صدره وضغط على نبع شهوتها فكادت تنهار ولم تشعر بيدها إلا وهي تشد بقوة السلسلة والقرص العسكري المكتوب اسمه ووحدته عليه وهي تشهق ..كانت تشد بقوة أكثر وأكثر حتى انفرطت السلسلة في اللحظة التي أفرغا كأس رغبتيهما.. ورأته يقف يتأملها ثم ينسل ببطء مثلما جاء، وحينما غادر ندمت لأنها لم تسأله متى يعود . ونامت نوما عميقا تلك الليلة وفي الصباح نهضت نشيطة مرحة فرأت الهر البني أمامها وهو يتثاءب . انحنت وحملته من الأرض وأخذته جانبا وراحت تروي له ماجرى بالأمس .لم يكن الهر متحمسا وهو يصغي لما تقوله فقد كان يتحسس بيده موضع القلادة التي اختفت من عنقه .

يعطيك الف عافية والى الامام......................

يعطيك الف عافية